فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فَأَمَّا الإنسان} إلخ متصل بما عنده كأنه قيل إنه سبحانه {لبالمرصاد} من أجل الآخرة فلا يطلب عز وجل إلا السعي لها فأما الإنسان فلا يهمه إلا الدنيا ولذاتها فإن نال منها شيئاً رضي وإلا سخط وكان اللائق أن لا يهمه إلا ما يطلبه الله عز وجل ولا يكون حاله ذلك وقيل هو متصل به متفرع عليه على معنى فالإنسان يؤاخذ لا محالة لأنه بين غني مهلك موجب للتكبر والافتخار بالدنيا وبين فقر لا يصبر عليه ويكفر لأجله بالجزع والقول بما لا ينبغي وهو كما ترى (إِذَا مَا خَشِىَ رَبَّهُ) أي عامله معاملة من يبتليه بالغنى واليسار ليرى هل يشكر أم لا والفاء في قوله سبحانه: {فَأَكْرَمَهُ ونعمه} تفسيرية فإن الإكرام والتنعيم عين المراد بالابتلاء ولما كان الإكرام والتنعيم في حكم شيء واحد اقتصر على قوله أكرمن في قوله سبحانه: {فَيَقول رَبّى أَكْرَمَنِ} ولم يضم إليه ونعمني وهذه لجملة خبر للمبتدأ الذي هو الإنسان والفاء لما في أما من معنى الشرط والظرف أعني إذا متعلق بـ: {فيقول} وهو على نية التأخير ولا تمنع الفاء من ذلك كما صرح به الزمخشري وغيره من متقدمي النحاة وتبعهم من بعدهم كأبي حيان والسمين والسفاقسي مع جمع غفير من المفسرين وهو كما قال الشهاب الحق الذي لا محيد عنه وخالفهم في ذلك الرضى ومن تبعه كالبدر الدماميني في شرح المغنى فقالوا إنما يجوز تقديم ما بعد الفاء إذا كان المقدم هو الفاصل بين أما والفاء لما يتعلق بتقديمه من الأغراض فإن كان ثمت فاصل آخر امتنع تقديم غيره فيمتنع أما زيد طعامك فآكل وان جاز أما طعامك فزيد آكل وقالوا في ذلك إنهم لما التزموا حذف الشرط لزم دخول أداته على فاء الجواب وهو مستكره فدعت الضرورة للفصل بينهما بشيء مما بعد الفاء والفاصل الواحد كاف فيه فيجب الاقتصار عليه وزعم الجلبي محشي المطول ان هذا متفق عليه فرد به على المفسرين أعرابهم السابق وقال إنه خطأ والصواب أن يجعل الظرف متعلقاً بمقدر وهو المبتدأ في الحقيقة.
والتقدير فأما شأن الإنسان إذا إلخ فالظرف من تتمة الجزء المفصول وبه ليس فاصلاً ثانياً كقولك أما أحسان زيد إلى الفقير فحسن ويرد على تقديره أنه لا يصح وقوع جملة يقول خبراً عن الشأن إلا بتعسف كأن يكون الفعل بتأويل المصدر وإن لم تكن معه في اللفظ أن المصدرية كما قيل:
تسمع بالمعيدي خير من أن تراه

من السحاب إلى الميزاب وذهب أبو البقاء إلى أن إذا شرطية وقوله تعالى: {فيقول} جوابها والجملة الشرطية خبر الإنسان ويلزمه حذف الفاء بدون القول وقد قيل إنه ضرورة.
وقوله عز وجل: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه} عامله معاملة من يبتليه ويختبره بالحاجة والتفقير ليرى هل يصبر أم لا {فَقدر عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقول رَبّى أَهَانَنِ} بتقدير وأما هو أي الإنسان إذا ما ابتلاه إلخ ليصح التفصيل ويتم التوازن وبقية الكلام فيه كما في سابقه والظاهر أن كلتا الجملتين متضمنة لإنكار قول الإنسان الذي تضمنته وإنكار قوله إذا ضيق عليه رزقه {ربي أهانن} لدلالته على قصور نظره وسوء فكره حيث حسب أن تضييق الرزق إهانة مع أنه قد يؤدي إلى كرامة الدارين ولعدم كونه إهانة أصلاً لم يقل سبحانه في تفسير الابتلاء فإهانه وقدر عليه رزقه نظير ما قال سبحانه أولا {فاكرمه ونعمه} [الفجر: 15] وإنكار قوله إذا أكرم ربي أكرمني مع قوله تعالى: {فأكرمه} أولاً من حيث إنه أثبت إكرام الله تعالى له على خلاف ما أثبت الله تعالى وهو قصد أن الله تعالى أعطاه ما أعطاه إكراماً له مستحقًّا ومستوجباً قصداً جاريا علي ما كانوا عليه من افتخارهم وزعمهم جلالة أقدارهم والحاصل أن المنكر كونه عن استحقاق لحسب أو نسب وفي المفصل ما يدل على أن أصل الإكرام منكر لا كونه عن استحقاق وإنكار أصل الإهانة يعضده ووجهه ما أثبته تعالى من الإكرام إن الله عز وجل أثبت الإكرام بإيتاء المال والتوسعة وهو جعله إكراماً كلياً مثبتاً للزلفى عنده تعالى فإنكار أنه ليس من ذلك الإكرام في شيء وجوز أن يكون الإنكار إنكاراً للإهانة فقط يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله تعالى وإكرامه وإذا لم يتفضل عليه سمي ترك التفضل هواناً وليس به قيل ويعضده ذكر الإكرام في قوله تعالى: {فأكرمه} وفي الآية مع ما بعد شمة من أسلوب قوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً} [المعارج: 19-21] ولا يخفى أن الوجه هو الأول وقرأ ابن كثير أكرمني وأهانني بإثبات الياء فيهما ونافع بإثباتها وصلا وحذفها وقفا وخير في الوجهين أبو عمرو وحذفها باقي السبعة فيهما وصلا ووقفا ومن حذفها وقفا سكن النون فيه وقرأ أبو جعفر وعيسى وخالد والحسن بخلاف عنه وابن عامر فقدر بتشديد الدال للمبالغة.
{كَلاَّ} ردع للإنسان عن قوليه المحكيين وتكذيب له فيهما لا عن الأخير فقط كما في الوجه الأخير وقد نص الحسن على ما قلنا وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المعنى لم أبتله بالغنى لكرامته على ولم أبتله بالفقر لهوانه على بل ذلك لمحض القضاء والقدر وقوله سبحانه: {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} إلخ انتقال وترق من ذمه بالقبيح من القول إلى الأقبح من الفعل والالتفات إلى الخطاب لتشديد التقريع وتأكيد التشنيع وقيل هو بتقدير قل فلا التفات نعم فيه من الإشارة إلى تنقيصهم ما فيه والجمع باعتبار معنى الإنسان إذا المراد هو الجنس أي بل لكن أفعال وأحوال أشد شراً مما ذكر وأدل على تهالككم على المال حيث يكرمكم الله تعالى بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالمبرة به والإحسان إليه وفي الحديث: «أحب البيوت إلى الله بيت فيه يتيم مكرم».
وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو عمرو {لا يكرمون} بياء الغيبة.
{وَلاَ تَحَاضُّونَ} بحذف إحدى التاءين من تتحاضون أي ولا يحض ويحث بعضكم بعضاً {على طَعَامِ المسكين} أي على إطعامه فالطعام مصدر بمعنى الإطعام كالعطاء بمعنى الإعطاء وزعم أبو حيان أن الأولى أن يراد به الشيء المطعوم ويكون الكلام على حذف مضاف أي على بذلك طعام المسكين والمراد بالمسكين ما يعم الفقير.
وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن علي وعبد الله بن المبارك والشيرزي عن الكسائي كقراءة الجماعة إلا أنهم ضموا تاء {تحاضون} من المحاضة.
وقرأ أبو عمرو ومن سمعت الحسن ومن معه {ولا يحضون} بياء الغيبة ولا ألف بعد الحاء وباقي السبعة بتاء الخطاب كذلك وكذا الفعلان بعد والفعل على القراءتين جوز أن يكون متعدياً ومفعوله محذوف فقيل أنفسهم أو أنفسكم وقيل أهليهم أو أهليكم وقيل أحدا وجوز وهو الأولى أن يكون منزلاً منزلة اللازم للتعميم.
{وَتَأْكُلُونَ التراث} أي المراث وأصله وراث فأبدلت الواو تاء كما في نخمنة وتكأة ونحوهما.
{أَكلا لَّمّاً} أي ذا لم أو هو نفس اللم على المبالغة واللم الجمع ومنه قول النابغة:
ولست بمستبق أخالا تلمه ** على شعث أي الرجال المهذب

والمراد به هنا الجمع بين الحلال والحرام وما يحمد وما لا يحمد ومنه قول الخطيئة:
إذا كان لما يتبع الذم ربه ** فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا

يعني إنكم تجمعون في أكلكم بين نصيبكم من الميراث ونصيب غيركم ويروى أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد فيأكلون نصيبهم ويقولون لا يأخذ الميراث إلا من يقاتل ويحمى الحوزة هذا وهم يعلمون من شريعة إسماعيل عليه السلام أنه يرثون فاندفع ما قيل إن السورة مكية وآية المواريث مدنية ولا يعلم الحل والحرمة إلا من الشرع فإن الحسن والقبح العقليين ليسا مذهبا لنا وقيل يعني تأكلون ما جمعه الميت المورث من حلال وحرام عالمين بذلك فتلمون في الأكل بين حلاله وحرامه.
وفي الكشاف يجوز أن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلاً مهلاً من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلا واسعاً جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه ونحوها كما يفعله الوارث البطالون وتعقب بأنه غير مناسب للسياق.
{وَتُحِبُّونَ المال حبًّا جَمّاً} أي كثيراً كما قال ابن عباس وأنشد قول أمية:
إن تغفر اللهم تغفر جما ** وأي عبد لك لا ألما

والمراد إنكم تحبونه مع حرص وشره. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونعمه فَيَقول رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)}
دلت الفاء على أن الكلام الواقع بعدها متصل بما قبلها ومتفرع عليه لا محالة.
ودلت (أمّا) على معنى: مهما يكن من شيء، وذلك أصل معناها ومقتضى استعمالِها، فقوي بها ارتباط جوابها بما قبلها وقبْلَ الفاء المتصلة بها، فَلاح ذلك برقاً وامضاً، وانجلى بلمعة ما كان غامضاً، إذ كان تفريع ما بعد هذه الفاء على ما قبلها خفياً، فلنبينه بياناً جليّاً، ذلك أن الكلام السابق اشتمل على وصف ما كانت تتمتع به الأمم الممثَّل بها مما أنعم الله عليها به من النعم، وهم لاهون عن دعوة رُسُل الله، ومعرضون عن طلب مرضاة ربهم، مقتحمون المناكر التي نُهوا عنها، بطرون بالنعمة، معجَبون بعظمتهم فعقب ذكر ما كانوا عليه وما جازاهم الله به عليه من عذاب في الدنيا، باستخلاص العِبرة وهو تذكير المشركين بأن حالهم مماثل لحال أولئك تَرفاً وطغياناً وبطراً، وتنبيهُهم على خطاهم إذْ كانت لهم من حال الترف والنعمة شبهةٌ توهَّموا بها أن الله جعلهم محل كرامة، فحسبوا أن إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بالعذاب ليس بصدق لأنه يخالف ما هو واقع لهم من النعمة، فتوهموا أنّ فعل الله بهم أدلّ على كرامتهم عنده مما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أمرهم بخلاف ما هم عليه، ونفوا أن يَكون بعد هذا العالم عالم آخر يضاده، وقصروا عطاء الله على ما عليه عباده في هذه الحياة الدنيا، فكان هذا الوهَم مُسوِّلاً لهم التذكيب بما أنذروا به من وعيد، وبما يسر المؤمنون من ثواب في الآخرة، فحصروا جزاء الخير في الثروة والنعمة وقصروا جزاء السوء على الخصاصة وقَتْر الرزق.
وقد تكرر في القرآن التعرض لإِبطال ذلك كقوله: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} [المؤمنون: 55، 56].
وقد تضمن هذا الوهَم أصولاً انبنى عليها، وهي: إنكار الجزاء في الآخرة، وإنكار الحياة الثانية، وتوهم دوام الأحوال.
ففاء التفريع مرتبطة بجملة: {إن ربك لبالمرصاد} [الفجر: 14] بما فيها من العموم الذي اقتضاه كونها تذييلاً.
والمعنى: هذا شأن ربك الجاري على وفق علمه وحكمته.
فأما الإنسان الكافر فيتوهم خلاف ذلك إذ يحسب أن ما يناله من نعمة وسَعَة في الدنيا تكريماً من الله له، وما يناله من ضيق عيش إهانَةً أهانه الله بها.
وهذا التوهم يستلزم ظنهم أفعال الله تعالى جارية على غير حكمة قال تعالى: {ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ} [فصلت: 50].
فأعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالحقيقة الحق ونبههم لتجنب تخليط الدلائل الدقيقة السامية، وتجنب تحكيم الواهمة والشاهية، وذكرهم بأن الأحوال الدنيوية أعراض زائلة ومتفاوتة الطول والقصر، وفي ذلك كله إبطال لمعتقد أهل الشرك وضلالهم الذي كان غالباً على أهل الجاهلية ولذلك قال النابغة في آل غسان الذين لم يكونوا مشركين وكانوا متدينين بالنصرانية:
مَجَلَّتُهم ذَاتُ الإله ودينُهم ** قَويم فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ العَوَاقِب

وَلا يَحْسَبُون الخَيْرَ لا شَرَّ بعدَه ** ولا يحسبُون الشرَّ ضَرْبَةَ لازِبِ

وقد أعقب الله ذلك بالردع والإبطال بقوله: {كلا}.
فمناط الردع والإبطال كِلا القولين لأنهما صادران عن تأويل باطل وشبهة ضالّة كما ستعرفه عند قوله تعالى: {فأكرمه ونعمه}.
واقتصار الآية على تقتير الرزق في مقابلة النعمة دون غير ذلك من العلَل والآفات لأن غالب أحوال المشركين المتحدث عنهم صحة المزاج وقوة الأبدان فلا يهلكون إلا بقتل أو هَرم فيهم وفي ذويهم، قال النابغة:
تَغْشَى مَتَالِفَ لا يُنْظِرْنَكَ الهَرَمَا

ولم يعرج أكثر المفسرين على بيان نَظْم الآية واتصالها بما قبلها عدا الزمخشري وابنَ عطية.
وقد عرف هذا الاعتقاد الضال من كلام أهل الجاهلية، قال طرفة:
فلو شاءَ ربّي كنتُ قيسَ بنَ عاصم ** ولو شَاء رَبي كنتُ عَمْرَو بنَ مَرْثَدِ

فأصبحتُ ذا مال كثيرٍ وطاف بي ** بَنُون كرامٌ سَادَة لمُسَوَّد

وجعلوا هذا الغرور مقياساً لمراتب الناس فجعلوا أصحاب الكمال أهل المظاهر الفاخرة، ووصموا بالنقص أهل الخصاصة وضعفاء الناس، لذلك لما أتى الملأ من قريش ومن بني تميم وفزارة للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عَمَّار، وبلالٌ، وخبابٌ، وسالمٌ، مولَى أبي حذيفة، وصُبَيح مولى أُسَيْد، وصُهَيْبٌ، في أناس آخرين من ضعفاء المؤمنين قالوا للنبي أطْرُدهم عنك فَلَعلّك إن طردتهم أن نتبعك.
وقالوا لأبي طالب: لو أن ابن أخيك طَرد هؤلاء الأعْبُدَ والحُلَفَاءَ كان أعظمَ له في صدُورنا وأدلى لاتِّباعنا إياهـ.
وفي ذلك نزل قوله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم} الآية كما تقدم في سورة الأنعام (52).
فنبه الله على خطأ اعتقادهم بمناسبة ذكر مماثِلِهِ مما اعتقده الأمم قبلهم الذي كان موجباً صَب العذاب عليهم، وأعْلَمهم أن أحوال الدنيا لا تُتخذ أصلاً في اعتبار الجزاء على العمل، وأن الجزاء المطرد هو جزاء يوم القيامة.
والمراد بالإنسان الجنس وتعريفه تعريف الجنس فيستغرق أفراد الجنس ولكنه استغراق عُرفي مراد به الناسُ المشركون لأنهم الغالب على الناس المتحدث عنهم وذلك الغالب في إطلاق لفظ الإنسان في القرآن النازل بمكة كقوله: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} [العلق: 6، 7] {أيحسب الإنسان أَلَّن نجمع عظامه} [القيامة: 3] {لقد خلقنا الإنسان في كبد أيحسب أن لن يقدر عليه أحد} [البلد: 4، 5] ونحو ذلك ويدل لذلك قوله تعالى: {يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} [الفجر: 23] الآية.
وقيل: أريد إنسان معين، فقيل عتبة بن ربيعة أو أبو حذيفة بن الغيرة عن ابن عباس، وقيل: أمية بن خَلَف عن مقاتل والكلبي، وقيل: أبيّ بن خلف عن الكلبي أيضًا، وإنما هؤلاء المسمَّوْن أعلام التضليل.
قال ابن عطية: ومن حيث كان هذا غالباً على الكفّار جاء التوبيخ في هذه الآية باسم الجنس إذ يقع (كذا) بعض المؤمنين في شيء من هذا المنزع اهـ.
واعلم أن من ضلال أهل الشرك ومن فتنة الشيطان لبعض جهلة المؤمنين أن يخيل إليهم ما يحصل لأحد بجعل الله من ارتباط المسببات بأسبابها والمعلولات بعللها فيضعوا ما يصادف نفع أحدهم من الحوادث موضع كرامة من الله للذي صادفْته منافع ذلك، تحكيماً للشاهية ومحبةِ النفس ورجْماً بالغيب وافتيَاتاً على الله، وإذا صادف أحدهم من الحوادث ما جلبَ له ضرّاً تخيّله بأوهامه انتقاماً من الله قصدَه به، تشاؤماً منهم.
فهؤلاء الذين زعموا ما نالهم من نعمة الله إكراماً من الله لهم ليسوا أهلاً لكرامة الله.
وهؤلاء الذين توهموا ما صادفهم من فتور الزرق إهانة من الله لهم ليسوا بأحط عند الله من الذين زعموا أن الله أكرمهم بما هم فيه من نعمة.
فذلك الاعتقاد أوجب تغلغل أهل الشرك في إشراكهم وصرَفَ أنظارهم عن التدبر فيما يخالف ذلك، وربما جرت الوساوس الشيطانية فتنةً من ذلك لبعض ضعفاء الإيمان وقصار الأنظار والجهال بالعقيدة الحق كما أفصح أحمد بن الرّاوندي.
عن تزلزل فهمهم وقلة علمهم بقوله:
كم عاقلٍ عاقلٍ أعْيَتْ مذاهبُه ** وجَاهِلٍ جاهلٍ تلقاه مرزوقاً

هذا الذي تَرك الأَفْهام حائرةً ** وصيَّر العالِم النحرير زنديقاً

وذلك ما صرف الضالين عن تطلب الحقائق من دلائلها، وصرفهم عن التدبر فيما يُنِيل صاحبه رضي الله وما يوقع في غضبه، وعِلْم الله واسع وتصرفاتُه شتّى وكلها صادرة عن حكمة {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة: 255].
فقد يأتي الضر للعبد من عدة أسباب وقد يأتي النفع من أخرى.
وبعض ذلك جار في الظاهر على المعتاد، ومنه ما فيه سمة خرق العادة.
فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد، والموفق يتيقظ لِلأمَاراتِ قال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} [الأنعام: 44] وقال: {وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} [الأعراف: 94، 95] وقال: {أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون} [التوبة: 126].
وتصرفات الله متشابهة بعضها يدل على مراده من الناس وبعضها جار على ما قدره من نظام العالم وكلٌّ قد قضاه وقدره وسبق علمه به ورَبَط مسبباتِه بأسبابه مباشرةً أو بواسطة أو وسائط والمتبصر يأخذ بالحيطة لنفسه وقومِه ولا يقول على الله ما يمليه عليه وهَمه ولم تنهَضْ دلائله، ويُفوِّض ما أشكل عليه إلى علم الله.
وليس مثلُ هذا المحكيّ عنهم من شأن المسلمين المهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم والمتبصرين في مجاري التصرفات الربانية.
وقد نجد في بعض العوامّ ومن يشبههم من الغافلين بقايا مت اعتقاد أهل الجاهلية لإِيجاد التخيلات التي تمليها على عقولهم فالواجب عليهم أن يتعظوا بموعظة الله في هذه الآية.
لا جرم أن الله قد يعجل جزاء الخير لبعض الصالحين من عباده كما قال: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنُحْيِينَّه حياة طيبة} [النحل: 97].
وقد يعجّل العقاب لمن يغضب عليه من عباده.
وقد حكَى عن نوح قوله لقومه: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين} [نوح: 10 12] وقال تعالى: {وأَلَّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً} [الجن: 16].
ولهذه المعاملة علامات أظهرها أن تجري على خلاف المألوف كما نرى في نصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاءِ على الأمم العظيمة القاهرة.
وتلك مواعيد من الله يحققها أو وعيد منه يحيق بمستحقيه.
وحرف (أمَا) يفيد تفصيلاً في الغالب، أي يدل على تقابل بين شيئين من ذواتٍ وأحوال.
ولذلك قد تكرر في الكلام، فليس التفصيلُ المستفاد منها بمعنى تبيينِ مجملٍ قبلَها، بل هو تفصيل وتقابُل وتوازن، وهو ضرب من ضروب التفصيل الذي تأتي له (أمَّا)، فارتباط التفصيل بالكلام السابق مستفاد من الفاء الداخلة على (أما)، وإنما تعلقه بما قبله تعلَّقُ المفرع بمنشئه لا تفصيل بيان على مجمل.
فالمفصل هنا أحوال الإِنسان الجاهِل فُصّلت إلى حاله في الخفض والدعة وحاله في الضنك والشدة فالتوازن بين الحالين المعبَّر عنهما بالظرفين في قوله: {إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه} إلخ وفي قوله: {وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه} الخ.
وهذا التفصيل ليس من قبيل تبيين المُجمل ولكنه تمييز وفصْل بين شيئين أو أشياء تشتبه أو تختلط.
وقد تقدم ذكر (أمّا) عند قوله تعالى: {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم} الآية في سورة البقرة (26).
والابتلاء: الاختبار ويكون بالخير وبالضرّ لأن في كليهما اختباراً لثبات النفس وخلق الأناة والصبر قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35] وبذكر الابتلاء ظهر أن إكرام الله إياه إكرام ابتلاء فيقع على حالين، حال مرضية وحال غير مرضية وكذلك تقتير الرزق تقتير ابتلاء يقتضي حالين أيضًا.
قال تعالى: {ليبلوني أأشكر أم أكفر} [النمل: 40] وقال: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35] والأشهر أنه الاختبار بالضر وقد استعمل في هذه الآية في المعنيين.
والمعنى: إذا جَعَلَ ربُّه ما يناله من النعمة أو من التقتير مظهراً لحاله في الشكر والكفر، وفي الصبر والجزع، توهَّم أن الله أكرمه بذلك أو أهانه بهذا.
والإِكرام: قال الراغب: أن يُوصَل إلى الإِنسان كرامة، وهي نفع لا تلحق فيه غضاضة ولا مذلة، وأن يُجعل ما يوصل إليه شيئاً كريماً، أي شريفاً قال تعالى: {بل عباد مكرمون} [الأنبياء: 26]، أي جعلهم كراماً أ هـ يريد أن الإِكرام يطلق على إعطاء المكرمة ويطلق على جعل الشيء كريماً في صنفه فيصدق قوله تعالى: {فأكرمه} بأن يصيب الإِنسان ما هو نفع لا غضاضة فيه، أو بأن جُعل كريماً سيداً شريفاً.
وقوله: {فأكرمه} من المعنى الأول للإِكرام وقوله: {فيقول ربي أكرمني} من المعنى الثاني له في كلام الراغب واعلم أن قوله: {ونعمه} صريح في أن الله ينعم على الكافرين إيقاظاً لهم ومعاملة بالرحمة، والذي عليه المحققون من المتكلمين أن الكافر مُنعَم عليه في الدنيا، وهو قول الماتريدي والباقِلاني.
وهذا مما اختلف فيه الأشعري والماتريدي والخُلف لفظي.
ومعنى {نعّمه} جعله في نعمة، أي في طيب عيش.
ومعنى: {فقدر عليه رزقه} أعطاه بقدر محدود، ومنه التقتير بالتاء الفوقية عوضاً عن الدال، وكلّ ذلك كناية عن القلة ويقابله بسط الرزق قال تعالى: {ولو بسط اللَّه الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء} [الشورى: 27].
والهاء في {رزقه} يجوز أن تعود إلى {الإنسان} من إضافة المصدر إلى المفعول، ويجوز أن تعود إلى {ربه} من إضافة المصدر إلى فاعله.
والإِهانة: المعاملة بالهون وهو الذل.
وإسناد {فأكرمه ونعمه...فقدر عليه رزقه} إلى الرب تعالى لأن الكرامة والنعمة انساقت للإِنسان أو انساق له قدر الرزق بأسباب من جعل الله وسننه في هذه الحياة الدنيا بما يصادف بعضُ الحوادث بعضاً، وأسباب المقارنة بين حصول هذه المعاني وبين من تقع به من الناس في فُرصها ومناسباتها.
والقول مستعمل في حقيقته وهو التكلم، وإنما يتكلم الإنسان عن اعتقاد.
فالمعنى: فيقول ربي أكرمني، معتقداً ذلك، ويقول: ربيَ أهانني، معتقداً ذلك لأنهم لا يخلون عن أن يفتخروا بالنعمة، أو يتذمروا من الضيق والحاجة، ونظير استعمال القول هذا الاستعمال ما وقع في قوله تعالى: {ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} [آل عمران: 75]، أي اعتقدوا ذلك فقالوه واعتذروا به لأنفسهم بين أهل ملتهم.
وتقديم {ربي} على فعل {أكرمني} وفعللِ {أهانني}، دون أن يقول: أكرمني ربي أو أهانني ربي، لقصد تقوّي الحكم، أي يقول ذلك جازماً به غير متردد.
وجملتا: {فيقول} في الموضعين جوابان لـ: (إمَّا) الأولى والثانية، أي يطرد قول الإِنسان هذه المقالة كلما حصلتْ له نعمة وكلما حصل له تقتير رزق.
وأوثِر الفعل المضارع في الجوابين لإِفادة تكرر ذلك القول وتجدده كلما حصل مضمون الشرطين.
وحرف {كَلاّ} زجر عن قول الإِنسان {ربي أكرمن} عند حصول النعمة.
وقوله: {ربيَ أهانني} عندما يناله تقتير، فهو ردع عن اعتقاد ذلك فمناط الردع كِلاَ القولين لأن كل قول منهما صادر عن تأول باطل، أي ليست حالة الإنسان في هذه الحياة الدنيا دليلاً على منزلته عند الله تعالى.
وإنما يُعرَف مراد الله بالطرق التي أرشد الله إليها بواسطة رسله وشرائعه، قال تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} إلى قوله: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} في سورة الكهف (103 105).
فرب رجل في نعمة في الدنيا هو مسخوط عليه ورب أشعَث أغبر مطرود بالأبواب لو أقسم على الله لأبَرَّهُ.
فمناط الردع جعل الإِنعام علامة على إرادة الله إكرام المنعم عليه وجعل التقتير علامة على إرادة الإِهانة، وليس مناطه وقوع الكرامة ووقوع الإِهانة لأن الله أهان الكافرَ بعذاب الآخرة ولو شاء إهانته في الدنيا لأجل الكفر لأهان جميع الكفرة بتقتير الرزق.
وبهذا ظهر أن لا تنافي بين إثبات إكرام الله تعالى الإِنسان بقوله: {فأكرمه} وبين إبطال ذلك بقوله: {كلا} لأن الإِبطال وارد على ما قصده الإِنسان بقوله: {ربي أكرمن} أن ما ناله من النعمة علامةٌ علي رضي الله عنه.
فالمعنى: أن لشأن الله في معاملته الناس في هذا العالم أسراراً وعِللاً لا يُحاط بها، وأن أهل الجهالة بمعزل عن إدراك سرها بأقْيسة وهمية، والاستناد لمألوفات عادية، وأن الأولى لهم أن يتطلبوا الحقائق من دلائلها العقلية، وأن يعرفوا مراد الله من وحيه إلى رسله.
وأن يحذروا من أن يحيدوا بالأدلة عن مدلولها.
وأن يستنتجوا الفروع من غير أصولها.
وأما أهل العلم فهم يضعون الأشياء مواضعها، ويتوسمون التوسم المستند إلى الهدي ولا يخلطون ولا يخبطون.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {ربي} في الموضعين بفتح الياء.
وقرأ الباقون بسكونها.
وقرأ الجمهور {فقدر عليه} بتخفيف الدال.
وقرأه ابن عامر وأبو جعفر بتشديد الدال.
وقرأ نافع: {أكرمن}، {وأهانن} بياء بعد النون في الوصل وبحذفها في الوقف.
وقرأهما ابن كثير بالياء في الوصل والوقف.
وقرأهما ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب بدون ياء في الوصل والوقف.
وهو مرسوم في المصحف بدون نون بعد الياءين ولا منافاة بين الرواية واسم المصحف.
و{كلاّ} ردع عن هذا القول أي ليس ابتلاء الله الإِنسان بالنعيم وبتقتير الرزق مسبباً على إرادة الله تكريم الإِنسان ولا على إرادته إهانته.
وهذا ردع مجمل لم يتعرض القرآن لتبيينه اكتفاء بتذييل أحوال الأمم الثلاث في نعمتهم بقوله: {إن ربك لبالمرصاد} [الفجر: 14] بعد قوله: {فصب عليهم ربك سوط عذاب} [الفجر: 13].
{كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكلا لما وَتُحِبُّونَ المال حبًّا جَمّاً}.
{بل} إضراب انتقالي.
والمناسبة بين الغرضين المنتقل منه والمنتقل إليه مناسبةُ المقابَلةِ لمضمون {فأكرمه ونعمه} من جهة ما توهموه أن نعمة مالِهم وسعة عيشهم تكريم من الله لهم، فنبههم الله على أنهم إن أكرمهم الله فإنهم لم يُكرموا عبيده شُحّاً بالنعمة إذ حَرموا أهل الحاجة من فضول أموالهم وإذ يستزيدون من المال ما لا يحْتاجُون إليه وذلك دحض لتفخرهم بالكرم والبذل.
فجملة: {لا تكرمون اليتيم} استئناف كما يقتضيه الإضراب، فهو إمّا استئناف ابتداء كلام، وإما اعتراض بين {كلاّ} وأختها كما سيأتي وإكرام اليتيم: سَد خَلته، وحسن معاملته، لأنه مظنة الحاجة لفقدِ عائِلِه، ولاستيلائهم على الأموال التي يتركها الآباءُ لأبنائهم الصغار.
وقد كانت الأموال في الجاهلية يتداولها رؤساء العائلات.
والبِرّ، لأنه مظنة انكسار الخاطر لشعوره بفقد من يُدِلّ هو عليه.
و{اليتيم}: الصبي الذي مات أبوه وتقدم في سورة النساء، وتعريفه للجنس، أي لا تكرمون اليتامى.
وكذلك تعريف {المسكين}.
ونفي الحَض على طعام المسكين نفي لإطعامه بطريق الأولى، وهي دلالة فحوى الخطاب، أي لقلّة الاكتراث بالمساكين لا ينفعونهم ولو نفْعَ وساطة، بَلْهَ أن ينفعوهم بالبذل من أموالهم.
و{طعام} يجوز أن يكون اسماً بمعنى المطعوم، فالتقدير: ولا تحضون على إعطاء طعام المسكين فإضافته إلى المسكين على معنى لام الاستحقاق ويجوز أن يكون اسم مصدر أطعم.
والمعنى: ولا تحضون على إطعام الأغنياء المساكينَ فإضافته إلى المسكين من إضافة المصدر إلى مفعوله.
و{المسكين}: الفقير وتقدم في سورة براءة.
وقد حصل في الآية احتباك لأنهم لما نُفِي إكرامهم اليتيم وقوبل بنفي أن يحضُّوا على طعام المسكين، عُلم أنهم لا يحضون على إكرام أيتامهم، أي لا يحضون أولياء الأيتام على ذلك، وعلم أنهم لا يطعمون المساكين من أموالهم.
ويجوز أن يكون الحض على الطعام كناية عن الإِطعام لأن من يحض على فعل شيء يكون راغباً في التلبس به فإذا تمكن أن يفعله فعله، ومنه قوله تعالى: {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر: 3] أي عملوا بالحق وصبروا وتواصوا بهما.
وقرأ الجمهور: {لا تُكرمون}، {ولا تَحضون}، {وتأكلون}، {وتُحبون} بالمثناة الفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات من الغيبة في قوله: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه} الآيات لقصد مواجهتهم بالتوبيخ، وهو بالمواجهة أوقع منه بالغيبة.
وقرأها أبو عمرو ويعقوب بالمثناة التحتية على الغيبة لتعريف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بذلك فضحاً لدخائلهم على نحو قوله تعالى: {يقول أهلكت مالاً لبداً أيحسب أن لم يره أحد} [البلد: 6، 7].
وقرأ الجمهور: {ولا تحضُّون} بضم الحاء مضارع حضّ.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف {تَحَاضُّون} بفتح الحاء وألف بعدها مضارع حاضّ بعضهم بعضاً، وأصله تتحاضّون فحذفت إحدى التاءين اختصاراً للتخفيف أي تتمالئون على ترك الحض على الإطعام.
و{التراث}: المال الموروث، أي الذي يُخلفه الرجل بعد موته لوارثه وأصله: وُرَاث بواو في أوله بوزن فُعال من مادة وَرث بمعنى مفعول مثل الدُّقاق، والحُطام، أبدلت واوه تاء على غير قياس كما فعلوا في تُجاه، وتُخَمة، وتُهْمة، وتُقَاةٍ وأشباهها.
والأكل: مستعار للانتفاع بالشيء انتفاعاً لا يُبقي منه شيئاً.
وأحسب أن هذه الاستعارة من مبتكرات القرآن إذ لم أقف على مثلها في كلام العرب.
وتعريف التراث عوض عن المضاف إليه، أي تراث اليتامى وكذلك كان أهل الجاهلية يمنعون النساء والصبيان من أموال مورثيهم.
وأشعر قوله: {تأكلون} بأن المراد التراث الذي لا حق لهم فيه، ومنه يظهر وجه إيثار لفظ التُراث دون أن يقال: وتأكلون المال لأن التراث مال ماتَ صاحبه وأكْلُه يقتضي أن يستحق ذلك المال عاجز عن الذب عن ماله لصغرٍ أو أنوثة.
واللَّمُّ: الجمع، ووصْفُ الأكل به وصف بالمصدر للمبالغة، أي أكلا جامعاً مال الوارثين إلى مال الآكِل كقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2].
والجم: الكثير، يقال: جَمَّ الماءُ في الحوض، إذا كثر، وبِئر جموم بفتح الجيم: كثيرةُ الماء، أي حبًّا كثيراً، ووصْف الحُبّ بالكثرة مراد به الشدة لأن الحب معنى من المعاني النفسية لا يوصف بالكثرة التي هي وفرة عدد أفراد الجنس.
فالجمّ مستعار لمعنى القوي الشديد، أي حبًّا مفرطاً، وذلك محل ذم حب المال، لأن إفراد حبه يوقع في الحِرص على اكتسابه بالوسائل غير الحَق كالغصب والاختلاس والسرقة وأكل الأمانات. اهـ.